بيتٌ لنا نحنُ الأهل

 


يحلم الناس بــ: بَيتٍ، مَنزِل، سُكنَى يعيشون فيه بسكينة وأُلفَة.

في بيتٍ صغيرٍ

 دافئٌ وحميمٌ

 مليءٌ بالحُبِّ

 فما معنى كلمة "بيت"؟ ومن أين جاءت؟ وما أصلها؟ جاء في مقاييس اللغة لابن فارس تعريفٌ للبيتِ أنه: "الباء والياء والتاء أصلٌ واحدٌ، وهو المأوى والمآب، ومَجْمَع الشَّمل"[1]. إنَّ لفظةَ بَيتٌ أتَتْ مِن الفعل الماضي "بَاتَ"، الذي مضارعه "يَبَاتُ"؛ فهو مَبِيتٌ في بِيتٍ وملجأ يضم المرء ويحميه ويحتويه، ويُشعِرَهُ بالأمان. يمكن أنْ نستقري وجودَ فكرة "البيت" أنها نابعة من تَفرُّدِ المرء بقطعة من الأرض تخصه وحده، وتحفظ خصوصيته عن المجتمع البشري الذي يعيش فيه، من ثمَّة بإمكانه تكوين أسرته ولَمّ شمل عائلته؛ فالبيت إذن يعزز فكرة الفردانية والتمحور حول الذات مع مَنْ نحبهم.

وقد تغنَّى شاعر الدولة العباسية الجَزِل (أبو تمام) بالهَوى والمحبة الأولى، وضرب في ذلك مثلا على البيت، إذ لم يأتِ بيته الشعري من فراغ حين قال:

كَم مَنزلٍ فِي الأرضِ يَألفُه الفَتى ... وحنينُــه أَبَــداً لأوّلِ مَنـــــــــزلِ[2]


إنَّ الحنينَ للبيتِ الأولِ هو حنين للذاكرة الأولى على هذا الكوكب، للبدايات، ولطفولةِ المَرءِ المختبئةِ خلفَ همومه بالغة التفاهةِ. والبيت معنى من معاني الاستقرار والثبات؛ فهو المصدر الأول للإنسان ومرجعيته التأسيسية التي تحمل ذاكرة بداية وجوده على الأرض، و"لكون البشر يأتون إلى هذا العالم في مكان ٍلا يستطيعون في البداية أنْ يعرفوا حتى اسمه، ولم يعرفوه مِن قبل، ولأنهم في مَكانٍ مَجهول لا اسم له، يكبرون ويتحركون، ثم يتعرفون المكان ويستدعونه بحبٍ ويسمونه بيتا، وفيه يبقون جذورهم وإليه يتوجهون بحبهم، وحين يبتعدون عنه يغنون حنينهم إليه ويكتبون عنه أشعار شوق، وكأنهم عشَّاق"[3].

بيتٌ لنا نحنُ الأهل



كرايستشرش Christchurch


"طلبتَ بيتاً، ففتحتُ لكَ الذراعين"

خانه‌ای خواستی؛ به رویت آغوش گشودم[4].

ارتأيتُ الحديث عن البيتِ الذي أحلمُ أنْ أَعيشَ بِهِ -كما يفعل بقية البشر، لكن بيتي الحُلُم ينتمي إلى الطبيعة؛ فهو جزء منها وابنها الحَنون، إنه يَقَعُ في قلبِ غابةٍ أو مزرعةٍ خضراء شاسعة وكبيرة، مليئة بالأشجار المتنوعة: من صنوبر، ونخيل، وسرو، وشريش، ورمان. والحقيقة رؤيتي فطرية، إذ تنطلق من هذه المقولة: "إنَّ البيتَ ينتزع حصتَهُ مِن السماءِ، فالسماءُ بكاملها تصبحُ سقيفةً له"[5].

 

عن حُلُمِي بأنْ أَسرَحَ وَسَط الطبيعةِ

وسط غابةٍ عظيمة

وأشجار مَهِيبة وفارعة

وشمس ساطعة

ودفء هادئ

وجمال رائع

إنَّ هذا البيت الذي يلاحقني في أحلامي، المليء بالحُبِّ والحِنِّية والأمان والدفء يكمنُ داخل قلبي. إنَّ قلبي بيتٌ مملوءٌ بالحُّبِ، وهذه التفصيلة بالتحديد سيدهشُنِي اللهُ بها على أرضِ الواقع، وإلى أنْ يحين أوانها يمكن أنْ نعيشَ في قلوبِنَا عبر جمالية قوة الخيال وعمقه؛ فهل تمنى أحدٌ من قَبل أنْ يعيشَ داخل قلبه؟!

بيتٌ لنا نحنُ الأهل





 بهلاء

أما في وصف البيوت؛ فيمكنني معرفة تلك البيوت التي تنتمي إلى روحي، إنَّ بيوت روحي هي تلك المنظومة في أنفاس القصائد من أفواه الشعراء، والمنسكبة عبر نسائم الطبيعة وشعاعها، بيوتي تلك التي ما فتأتُ أُعبِّرُ عنها في أحلامي وأخطُّهَا في يومياتي.

 وفيما يخصُّ بيوتُ الفن، فيمكن أنْ نوردَ اقتباسا للفنان الهولندي فان جوخ الذي رغب أن ينتمي بيته لــــ "بيت فنان" يمثل ويعكس روحه الإبداعية، يقول واصفا بيته: "بيتي مطليٌ من الخارج بلون الزبدة الطازجة الأصفر، ولنوافذه مصاريعُ خضراء فاقعة. إنه قائم تحت ضياء الشمس على ساحة فيها حديقة خضراء ذات أشجار بسيطة... أشجار الدفلى والأكاسيا؟ داخل البيت مطلي كله بالأبيض، والأرض مصنوعة من بلاطات قرميدية حمراء. ومن فوق ذلك سماء عميقة الزرقة. أستطيع في هذا البيت أنْ أعيش وأن أتنفس، وأن أتأمل وأرسم"[6].


بيتُ الأجداد


بيوتي

البيوتُ المسترخيةُ، والمُستلقيةُ على تِلالٍ نَاعمَةٍ.... بيوتي

البيوتُ السعيدةُ جدًا، المليئة بالحُبِّ والمودَّةِ واللطف والقبول والجمال.... بيوتي

البيوتُ التي تَحملُ حكايا الحُبِّ، وذكريات أحضان العائلة، وبداخلها طاقة خير وبهجة.... بيوتي

البيوتُ التي تصدح بها زقزقات العصافير، وتُحلِّقُ فيها الفراشات، ويطير النحل والدبور... بيوتي

البيوت المليئة بالأشجار؛ حتى لتظنَّ نفسك أنك في إحدى الحدائق الغنَّاء أو إحدى الجنان الأندلسية... بيوتي

البيوتُ التي تحملُ الذكريات.... بيوتي

البيوتُ الفوَّاحة باللبان العُماني... بيوتي

البيوتُ التي تُضّاءُ أشجارها ليلاً... بُيوتِي

وأنا بيتٌ يُسْتَطَابُ المَقَام به

أنا بيتٌ يودُّ لو يضُمَّ مَنْ اصطفاهم في حُضنِهِ

بيتٌ يبعثُ حُبًّا وقبلات وأحضان دافئة

بيتٌ لعائلةٍ مُمتدَّةٍ وحَيوية

بيتٌ لنا نحنُ الأهل


كافيه كدم، بهلاء



أنا بيتٌ يحلمُ أن يكون قصرا برجوازيا ويأبى أنْ يكونَ!

ثُمَّ يحلمُ أنْ يكون كوخا ريفيا هادئا في مزرعةٍ شاسعةٍ

وأمامها تقف غابات هائلة.

بيتٌ لنا نحنُ الأهل

 



هاجر الغفيلي

10 . 4 . 2022

الأحد



[1].  معجم مقاييس اللغة: أحمد بن فارس بن زكريا أبو الحسين، تحقيق وضبط: عبد السلام هارون، مادة: بيت، ج1، دار الفكر، القاهرة، د. ط، 1979م، ص324.

[2]. ديوان أبي تمام الطائي: حبيب بن أوس، فسَّرَ ألفاظه اللغوية ووقف على طبعه: محيى الدين الخياط، طُبِعَ بمناظرة والتزام: محمد جمال، طُبِعَ مُرخّصًا من نظارة المعارف العمومية الجليلة، د.ط، د.ت، ص457.

[3]. جماليات المكان: غاستون باشلار، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1984م، ص75.

[4] . عبد العظيم فنجان؛ فارسیِ اسماء خواجه ‌‌زاده

[5] .  جماليات المكان، ص72. 

[6] فن السفر: آلان دو بوتون، ترجمة: الحارث النبهان، دار التنوير، بيروت، ط1، 2021، ص192.

تعليقات

المشاركات الشائعة