العربية الفصحى في اللهجة العمانية (دراسة صوتية تطبيقية)

لوحة فنية للفنان العُماني أنور سونيا


           إنَّ اللهجة تقترب اقترابا كبيرا من الفصحى، فبينهما مماسات كثر، إذ لا تنفصلان في الواقع؛ كون اللهجة وليدة الفصحى. لذا، تندرج هذه الدراسة ضمن توظيف الفصحى في العامية، أو استعمال مفردات فصيحة في الدارجة. من هذا المنطلق يمكن التَّعَرُف على بعض الفروقات من خلال مثال تطبيقي على ذلك.

لقد تعلمتُ كلمةً جديدة من اللهجةِ العُمانية -لهجة بعض أهل الداخلية والظاهرة- كلمة جميلة صوتيا وفصيحة في الآن ذاته، هي: "يَصْقَع"، ومعناها يصيح، مثلا: يصقعُ الديكُ فجرًا، أي يصيح فجرا. إنَّها لفظة لطيفة؛ لحروفها الصاد والقاف والعين، ففيها قوة صوتية عالية.

وقد جاء تعريفها لغويا في لسان العرب بمعنى: "الصَّقْعُ: رَفعُ الصوتِ. وصَقَعَ بصوته يَصْقَعُ صَقْعًا وصُقاعًا: رفعه. وصَقْعُ الديكِ: صوْتُه، والصقِيعُ أيضا صوتُه. وقد صَقَعَ الديكُ يَصْقَعُ أي صاح"[1].

كما جاءت اللفظة بحرف السين عوض الصاد: السَّقْع، وتحمل المعنى ذاته، لكن قوة المعنى مغايرة. فمعنى سَقَعَ، أي: "كلُّ ما يذكر في ترجمة صقع بالصاد فالسين فيه لغة. قال الخليل: كلُّ صاد تجيء قبل القاف، وكلُّ سين تجيء قبل القاف، فللعرب فيه لغتان: منهم من يجعلها سينًا، ومنهم من يجعلها صادًا لا يبالون أمتصلة كانت بالقاف أو منفصلة بعد أن يكونا في كلمة واحدة، إلا أن الصاد في بعض أحسن والسين في بعض أحسن. يقال: ما أدري أين سَقَعَ أي أين ذهب، وسقع الديك: مثل صقع. وخطيبٌ مِسْقَعٌ: مثل مِصْقَعٍ"[2].

يمكن التفريق بين دلالة اللفظتين: يصقع بالصاد: رفع الصوت بعلو وشدة وعمق؛ لما يحمله حرف الصاد من قوة حينما يتم التلفظ به من مخرجِهِ، فصفته أنه "صوت رخو مهموس، يشبه السين في كل شيء سوى أن الصاد أحد أصوات الإطباق. فعند النطق بالصاد يتخذ اللسان وضعا مخالفا لوضعه للسين، إذ يكون مقعرا منطبقا على الحنك الأعلى"[3]. إذ تأتي قوة الحرف وضعفه من حركة اللسان؛ فيصعد اللسان للأعلى عند النطق بالصاد (استعلاء)، ويهبط للأسفل عند النطق بالسين (استفال). فــ"الصاد -كما ترى- أقوى صوتا من السين؛ لما فيها من استعلاء"[4].

ويسقع بالسين، رفع الصوت بليونة ورقة، فحرف السين "صوت رخو مهموس"[5]، إذ يكون الصوت ضعيفا؛ لما يحمله من صفة الليونة. يقول ابن جني: "فجعلوا الصاد لقوتها، للمعنى الأقوى، والسين لضعفها، للمعنى الأضعف"[6]. إنَّ صفة الحرفين من قوة وضعفٍ حَتَّمتْ جعل كل حرف للمعنى الذي يلائمه.

إذ ذاك، يمكن تحليل كلمة "صَقَعَ" صوتيا (Phoneme)، فحرف الصاد مخرجه من أطراف اللسان، والقاف مخرجه أول اللسان وهو "صوت شديد مهموس"[7] وعميق، ينبع من الداخل، وأما العين حرف حلقي، يخرج من الحلق، وهو "صوت مجهور"[8]. فيشعر الناطق بهذه اللفظة كأنها خرجتْ من داخله من داخل جوفه، وفيها شيء تراجعي، إذ يُبْدَأُ التلفظ بها من أقرب مخرج (اللسان)، إلى العمق (مخرج الحلق)، بطريقة سلسة مرتبة، كأن بها شيئا انفجاريا. فلفظة يصقع يمكن تقسيمها لقسمين عند التلفظ بها: يص/قع، (يصصص. قع)، همس ثم صوت انفجاري، كأن شيئا قد انفجر، مثل البالون الذي يتسرب منه القليل من الهواء، ثم -بسبب الضغط العالي- ينفجر!

إنَّ حركة اللسان والفك عند النطق بها كحركة لسان وفك الديك حينما يصيح. والملاحظ أنَّ صوت اللفظة مشابها لصوت صياح الديك، وهنا مثلما ذكر ابن جني في كتابه الخصائص عن مشاكلة أصوات الألفاظ للمعاني، وإمساس الألفاظ أشباه المعاني، وقوة اللفظ لقوة المعنى. فهذا ما يُطلَقُ عليه "تسمية الأشياء بأصواتها". يقول ابن جني: "أما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونَهْجٌ مُتْلئِبّ عند عارفيه مأموم. وذلك أنهم كثيرا ما يجعلون أصوات الحروف على سَمْتِ الأحداث المعبَّر بها عنها، فيعدِّلونها بها ويحتذُونها عليها"[9].

كما يوجد معنى آخر للفظة "صَقَعَ" غير الصياح، هو:الضرب، من قبيل قول بعض أهل عُمَان الداخل معبرين عن ضربة الشمسِ: تصقعنا الشمس، وتسقعنا الشمس، أي تضربنا بأشعتها. فتصقعنا بالصاد تكون ضربة الشمس أشد من تسقعنا بالسين.

 وكذلك تأتي بمعنى "الصوت العالي"، مثلما يقال: خطيبٌ مِصْقَعٌ، أي عالي الصوت. يقول المتنبي:

يتيه الدقيق الفر في بُعدِ غوره       ويغرق في تياره وهو مِصْقَعُ[10]

يقول ابن جني شارحا لفظة "مِصْقَعُ": "الخطيب البليغ، ويقال أيضا مسقع بالسين".[11]

خلاصة القول إن السين أخت الصاد، لكن مثلما تَبَيَّنا أن لكل حرف صفته، وقوته، فيتم توظيفه لِيُدَعِّم المعنى الذي يتلاءم معه. كذلك لصوت بعض الألفاظ ارتباط بدلالالتها، وهذا الأمر يجعل الدلالة تتغلغل في ذهن المتلقي وفهمه.

هذه الدراسة المتواضعة تقدم فكرة مبدئية ومبسطة عن علاقته الصوت بمعنى الألفاظ، وعن تمازج اللهجة بالفصحى، وكذلك تفتح بابا لِمَن يرغب بطرق هذا الباب والولوج إلى هذا العالم المدهش؛ ليمنح ذهنه تفتحا وتوقدا، وحيوية أكثر.


هاجر الغفيلي

 الأربعاء. 16. 9 .2020



[1] محمد بن مكرم بن منظور الأنصار الأفريقي: لسان العرب، ج8، دار ومكتبة الهلال، بيروت، د.ط، 1970، ص261

[2] نفسه، ج7، ص209.

[3] إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، د.ط، 1995، ص77.

[4] عثمان بن جني: الخصائص، تحقيق: محمد علي النجار، ج2، المكتبة العلمية، د.ط، د.ت،، ص160.

[5] إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية،  ص76.

[6] عثمان بن جني: الخصائص، ج2، ص160.

[7] إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية،  ص85.

[8] نفسه،  ص89.

[9] عثمان بن جني: الخصائص، ج2، ص157.

[10] عثمان بن جني: الفسر، تحقيق: رضا رجب، ج2، دار الينابيع، دمشق، ط4، 2004، ص366.

[11] نفسه، ص367.

تعليقات

المشاركات الشائعة