رثاءٌ في أخي عبد الله

 

   

 إلى أخي العزيز عبد الله،

        كنتَ يا عبدَ الله مُعجزةَ حياتِنا، الطفلَ الغريبَ بين إخوتي، صاحبَ القلبِ جهةَ اليمين. قلبكُ لم ينمُ مذ كنتَ طفلا صغيرا -هكذا قال طبيبُك حين جِئتَ إلى الدنيا، قالَ إنَّ قلبك لن ينمو، وهو صادق، وقال إنك لن تُكمِل عاما واحدا في هذه الحياة، ثم ستموت؛ لكن تنبؤاتِهم لم تصبْ رحمَ الحقيقةِ في هذا الأمر؛ فقد مدَّ اللهُ في عُمركَ، وأكرمنا بصحبتِكَ، وقد شاركتَنَا يا عبدَ الله خُبزةَ حياتِنا بحُلوِهَا ومُرِّها على مدارِ خمسةٍ وعشرينَ عامًا في هذه الحياة.

قبل أن يتوفَّاكَ الله بأيام، سألناك: كيف يحترمك الناس، ويحبُّونك كثيرا، ويقدِّرُونَكَ رغم صِغَرِ سنّك، وقِلَّةِ مخالطتك لهم؟

فقلتَ لنا سِرًّا، وحكمة، وما أطيبَ كَلمَك.

قُلتَ إنَّ عَلَينَا أن نَستَمِعَ للجميعِ، وحين يأتي دورُنَا في الحديثِ، سيرغب الجميع بالاستماع إلينا؛ لأننا طَوالَ الجلسة صامتين، فنُبدي رأينا حينها بحكمةٍ وذكاء، مع احترام آراء الآخرين.

كُنتَ عَبدا مُخلصًا لله يا عبدَ الله؛ إنسانًا صابرًا ومؤمنًا مُحتسبًا، مؤمنًا بقضاءِ اللهِ وقدره، بالمرضِ الذي صاحبكَ طوالَ حياتك، بزياراتك المستمرّة للمستشفيات، رغم عدم رغبتك بزيارةِ تلك الأماكن.

شَهِدنَا على مِيتاتِكَ الكثيرة قبل أنْ تموتَ موتتَكَ الأخيرة؛ ومع كُلِّ مِيتَةٍ مؤقتة تمرُّ بك؛ كنا نَموتُ معك، كان قلبي ينهار من الألم ويذوب… إلى أنْ أَصبَحَ مُرهَفًا ورقيقًا جدًا، وفي كُلِّ مَرَّةٍ تعودُ إلينَا من تلك الميتات المؤقَّتة وتتحسّن حالتك؛ أحمِلُ نفسي المتثاقلة، وأعصابي التالفة، وأهرع إلى غُرفَتِي؛ لأنهار وأبكي وحدي.

في النصف الثاني من عام 2024، كان العام الأصعب علينا وعليك، فترةُ العلاجِ في تَايلند أظهرت لنا الحقيقة المُرَّة التي تُمرُّ بها، الحقيقة التي لم ندركها أثناء علاجك في مستشفى صُحار ولا في مستشفيات الهند. حقيقةُ أنَّ صمَّاماتِ القلبِ التي لم يخلقْها اللهُ لك، هو وحده القادر على إتمام خلقه فيك وأنت في هذا السن، خارج بطن والدتك المُكرَّمة.

لقد قلتُ إنَّكَ معجزةُ اللهِ بَينَنَا، وآمنتُ بالطريقةِ المختلفةِ التي خلقك اللهُ بها، وآمنتُ بقدرةِ اللهِ في شفائِكَ وفق طريقة خلقه، وأنَّ أطباء العالم أجمع علمُهم قاصرٌ وناقص؛ إذ يجهلون التعامل مع قلب طفلٍ في جسدِ إنسانٍ بَالِغ، له صمامان فقط وحجرتان قلبيتان.

كُنتَ سَنَدًا لي يا عبدَ الله، بعد الله سبحانه، ففي كُلِّ أَمرٍ مِن أُمورِي؛ أَستشيرُكَ فيه، روحُكَ الطموحة تُشبهُ رُوحِي، وكذلك حبُّكَ للسفرِ وعيش الحياة.

لقد تَشَارَكَنا الأفكارَ، والخططَ، والمشاريع. كُنتَ نِعمَ المُستشار لي، ونِعمَ السند، والظهر، والدعم المعنوي الكبير. كُنتَ مصدر ثقتي وأماني، وقوتي، ومجابهتي لهذا العالم! كنتَ حنونا وعطوفا علينا جميعا، لكن القدر غلبَ كل شيء.

قبل يوم وفاتك؛ قرأتُ قصةَ سيدِّنا أيوب عليه السلام، وتدبَّرتُ في طريقةِ شفائِهِ مِن مَرَضِهِ، وأرسلتُ لك هذه الآية لتدعو الله أنْ يرفعَ عنكَ البلاءَ والمرض: ﴿رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]

كنت أرجو أن يستجيب الله دعاءنا كما استجاب لأيوب، وأن يكون الجواب بردًا وسلامًا: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾.

حاولتُ أنْ أمدّك بالأمل؛ لتبقى وتشفى، تمنَّيتُ أنْ تحدث لك معجزةُ وتستعيدَ صحَّتك الكاملة يا عبدَ الله؛ لتعيش معنا بقيةَ حياتك، لكن البقية الباقية كانت ساعاتٍ مَعدُودَات. لقد أكملتَ ستةَ أَشهرٍ على رحيلك عنا، أراك في مناماتي... وأشتاقُ لكَ.

اشتقتُ أن أناديك باسم التحبّب "توتوه"... الاسمُ الذي اخترتُه لكَ حينَ كُنتَ طفلًا صَغيرًا،

أسألُ أمي: "أين توتوه؟"

فتجيبني: "اسمه عبد الله… الشيخ عبد الله."

توتوه… الشيخ عبد الله، اشتقتُ لك، اشتقتُ لعركاتِنا، وأحاديثنا عن المغامرات التي عشناها معًا في هذه الحياة، مغامرات إيران المُضحِكَة، وتايلند المؤلمة، وصلالة، وقطر... وكل البيوت التي تنقّلنَا بينها في الطفولة.

أودُّ أنْ أَمُدَّ يَدِي نَحو السماءِ لأسلِّمَ عليك،

كُلُّ يَومٍ أقولُ لله: "يا رب، سلِّم على أخي عبد الله، قُلْ له: هاجر تُسلِّم عليك".

سَلَامُ اللهِ عَلَيكَ، ورحماتُهُ عَلَى روحِكَ الطاهرة النَّقيّة.

حبيبي عبد الله

إلى لقاءٍ قريب،

قريبٍ جدًّا،

في جنَّاتِ النعيم


تاريخ الوفاة: ١٧ ديسمبر ٢٠٢٤



هاجر الغفيلي

تعليقات

المشاركات الشائعة