في امتداح الظهيرة


إنَّ الظهر من أجمل أوقات الحياة. فالظهر من الظهيرة، ومن الظهور، من الظاهر، من التجلي والوضوح، من ظهور شمس الحقيقة في وضح النهار، وكشوفات النفس المنعزلة وقت الظهر، ومن الظَّهْر الذي يدعم ويساند. 

يقول ابن فارس في تعريفه للظهر: "الظاء والهاء والراء أصلٌ صحيحٌ واحدٌ يدلُّ على قوةٍ وبروزٍ. من ذلك ظَهَرَ الشيءُ يظهر ظهوراً، إذا انكشف وبَرز. ولذلك سمِّي وقت الظُّهر والظَّهيرة، وهو أظهر أوقات النهار وأضوؤُها. والأصل فيه ظَهْر الإنسان، وهو خلافُ بطنه، وهو يجمع البُروزَ والقوة"[1].

الظُّهْرُ يعني هدوء النفس، وسكينتها، واطمئنان القلب، وصفاء الروح. الظُّهْرُ، أي الاستلقاء على الظَّهْرِ، والتنفس بعمقٍ، وتأمل السماءِ الزرقاء، فتكون السحب في السماء في ظهيرة الصيف مثل الأميرات، اللاتي يرتدين فساتين أنيقة، فتأتي الواحدة تلو الأخرى؛ ليستعرضن جمالهن في أبهى حلة، ثم يختفين.

الظُّهْرُ، أي السفر إلى بلادٍ بعيدةٍ، ثم ارتشاف كوب من القهوة مع حبيب وقت الظهيرة. وللظهر صوت خاص به، صوت مليء بالحياة.

إنَّ لحظة الظهر لحظة صادقة، مليئة بالصمت، إذ تتجلى فيها الحقائق، فأجمل لحظات الحياة تحدث وقت الظهر، في أوج وذروة سطوع الشمس.

كُلُّ شيءٍ نفعله في الظهر يدخل ضمن الجمال. أجمل الأفكار أفكار الظهر، وأجمل التأملات تأملات الظهر، أجمل ما كتبتُ من أبحاثٍ وكتابات كانت وقت الظهر.

المشاعرُ الحقيقيةُ تظهرُ وقتَ الظهرِ؛ فأحاديث الظهر برفقة الأهل والأحباب أحاديث أتتْ من الجنة، إذ تُسْتَرْجَعُ فيه الذكريات؛ فتتعالى الضحكات، وضحكات الظهر لا تُنْسَى أبدا.


 مَيَار، في إزكي وقت الظهر، سلطنة عمان


 أما من حيث الأكل، فأجمل وجبات اليوم، وجبة الغداء، التي تكون وقت الظهر. بعد الغداء يأتي النعاس ليدغدغ العيون، فإما أن تستسلم له، أو تقاوم فتنتصر؛ لجمال الظهر! قد ينام الناس فيه، يأخذون قيلولة ما بعد الغداء.

ومن الناحية الإيمانية، الظُّهْرُ وقتٌ مقدسٌ. يصلي المسلمون أول الظهر وآخره، قداس الأحد خصوصية جلاله وقت الظهر. ظُهْرُ يوم الجمعةِ مميز بروحانيته الدينية والاجتماعية.

يكون اليوم في ذروة شبابه وريعانه وقت الظهر، بعدها يبدأ بالخفوت والانسحاب تدريجيا نحو الموت. فيأتي الليل، وهو وقت مشيب اليوم واحتضاره، قبل أن تدق الساعة الثانية عشرة عند منتصف الليل؛ لتعلن دقات الساعة موته، وولادة يوم آخر جديد.

إن اليوم يشبه مراحل حياة الإنسان، إذ تحمله أمه بعد منتصف الليل، ثم يولد وقت الفجر، مع أول أذان فجر يؤذن ويعلن ولادته، ثم ينمو ويترعرع ويكبر.

 حتى يأتي وقت الظهر فيعلن المؤذن بأن اليوم أصبح شابا يافعا وقويا ويستحق العمل. بعدها يؤذن العصر؛ فيَنْبُو بأنه قد أصبح عريسا، وسينتج الأبناء قريبا. ثم يأتي وقت المغرب، وقت الراحة والسكينة، وترك كل ملاهي الحياة، والعودة إلى البيت مع الأسرة أو الجلوس مع النفس. بعدها يعلن المؤذن وقت العشاء، وأن اليوم سيدخل مرحلة المشيب، ثم يموت في وقت محدد له.

أكتب هذا النص اللطيف وقت الظهر، وأنا أتمدد تحت أشعة شمس نهار الصيف! هل تأمل أحدٌ منكم نعمة الظهيرة، ووقت الظهر من قبل؟





هاجر الغفيلي
10.7.2020 .الجمعة




[1] أحمد بن فارس: معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط: عبد السلام هارون، ج3، دار الفكر، القاهرة، د.ط، 1979، ص471.



تعليقات

المشاركات الشائعة