أهلا بلاد فارس

 

 


هنالك لحظات أشعرُ فيها أني فارسية الروح، مثل سجاد أصفهاني مسجى بالزخارف. قادني هذا الشعور للتحليق في رحلة روحية إلى بلاد فارس، محمولة بالأسئلة، والبحث عن الجَمالِ وسره، والاقتراب من معنى الجانب الروحي، وتاريخي الشخصي، وتَتبُّع علماء الطبيعة ممن ساروا على طريق البحث، تقودهم أسئلتهم العطشة للارتواء المعرفي والفكري! خاليةُ الوفاضِ من الأشياء، مرادي الوصول إلى رُوحي، والحصول على أجوبة تشفي مُنَاي، أو تزيدني فضولا وبحثا!

 للأمر علاقة بالحنين لأيامِ الطفولةِ، توقٌ لبيتِ الطفولةِ الأساس: بيتُ الأجداد. إنَّ بلادَ فارس تشبه بيت جدي "علي" وتذكرني به دوما، تُشبِهُهُ بالأشجارِ، والفسحة الداخلية الواسعة المفتوحة على السماءِ، بالضحكات ودفء العائلة، بالإضاءة الهادئة، ونور شمس الصباحِ في يومٍ شتوي، بالشاي الذي يخرج البخار منه، وبالحرية.

تلك البلاد تذكرني بالزخارف المنثورة في كل مكان في ذلك البيت، بالسجاد المحبوك بتنويعاته الفنية المتباينة، وباللوحات الفنية الكبيرة المعلقة على الجدران، لوحات زيتية مرسومٌ فيها مشهد خريفي في الطبيعة وقت الغروب، وأخرى مصور بها بيت الله الحرام في هيئته العتيقة والجميلة، ولوحة أخرى محمَّلة بالنباتات والورود، وغيرها تحمل آيات قرآنية مخطوطة ومؤطرة بزخارف إسلامية هادئة، وأنا أحببتُ جمال الروحانية الصادقة التي تنبعثُ من بَيتِ جدي! فقررتُ تَتبُّع آثارها المبثوثة داخل روحي.

 وقد قيل سابقا، "ما تبحثُ عنه؛ يكمنُ فيك" في عالمك الداخلي، وانعكاسه يتجلى في واقعك. من هذا المنطلق اخترتُ أن أرى عالمي الداخلي بعيني وببصيرتي؛ فأنطلقت في رحلةٍ دامت عشرة أيام.

بدأت الرحلةُ بطهران المعتَّقة بعبق التاريخ، والزاخرة بتراث يتجلى في كل خطوة تخطوها، في الطرقات وعلى الجدران، وبين السكك والممرات القديمة.

خلال رحلتي لاحظتُ أن أهل فارس لديهم توق وشغف وفضول لنا (نحن العمانيين) ولمعرفة ثقافتنا وحضارتنا، بذات التوق والفضول الذي نحمله لعالمهم الغريب. كُثُر تعرَّفُوا عليَّ وانتابهم الفضول تجاه الفتاة العمانية التي أتتْ من الجهةِ المقابلةِ لبلادهم! من العالم الموازي لعالمهم، وأنا فضولي أكبر تجاههم، تجاه تلك الثقافة الغنية، والضاربة في عمق التاريخ.

استهدفتُ -خلال الرحلة- الاستشعار بروحانية الزخارف الإسلامية، والتركيز على الطراز المعماري المتباين حسب الحقَب التاريخية التي مرَّت على هذه البلاد، وكذلك استهدفتُ معرفة أنواع النباتات الموجودة هناك، وأخذ عينات من بعض أوراق الأشجار التي تثير اهتمامي، وبالتأكيد تعلم ثقافة الناس وعاداتهم والعيش معهم في بيوتهم.





بالحديث عن البيوت؛ إنَّ بلادَ فارس مشهورة بالمنازلِ التاريخية، التي حُوِّلَتْ إلى متاحف مزهوة وبنيان رائقة، وردهات فسيحة، وساحات مليئة بالقصص والحكايا التراثية القديمة، تَكادُ تقرأ بين جدرانها قصصا من ألف ليلة وليلة، وأنت تعبر في الممرات الضيّقة والسكك المنتشية بعبق التاريخ؛ تلمس إحدى الشخصيات التاريخية، وقد تُلقِي التحيةَ على شخصية ملكشاه أو أحد الشاهانامات، أو العالِم والشاعر الفيلسوف عمر الخيام، أو قد يصادفك الشاعر حافظ الشيرازي أو السعدي في إحدى مكتبات شيراز القديمة، أو قد تتردد في أذنك أغنية "شيراز" التي نَظَمَها الشيرازي إذا ما داعبتْ وجهك نسائم لطيفة في مدينة الفن والعُشاق، والتي يقول في أولها:

"نسيم دلنواز شاعران شيراز، ببر به سوى شهر عاشقان تو اين راز"

"أيها النسيم العطوف الذي يرعى ويُبهج قلوب شعراء شيراز،  احملْ هذا السِّرَ واذهبْ بِهِ إلى مدينةِ العُشَّاقِ، شيراز"

وإنْ ضحِكَتْ روحك فجأةً في كاشان؛ فأعلم أن كلمات جلال الدين الرومي قد مرَّتْ من هناك، فتجدها عالقة في الهواء بين أرجاء "التكيات"، وأنَّ أثر روحانيته وفكره ما زال ينير ويُزهِر أرواح المارين في طرقات كلماته وكتبه!

أو قد تلتقي في باغ فردوس بالفنان الفارسي المعاصر "أُمِيد"، معنى اسمه "أمل"، يعدُّ أُمِيد من ضمن أقدم الفنانين الفارسيين المعاصرين، فقد كان أستاذا جامعيا في السكيولوجيا والسيسيولوجيا! سيقدم لك هذا الفنان –بدورهِ- حكايا وقصصا عن الحياة والجمال، وإنْ أردتَ أكثر قد يحلل شخصيتك بأسئلةٍ دقيقة تلامس ما تعيشه في حياتك الشخصية، أما نصيحته المعهودة؛ فهي موجهة لما يجب على المرءِ فعله في حياتهِ تلك كي يعيش بسلام: "الصداقة واليوجا". إنَّ الجلوس معه وشرب جاي الزعفران الإيراني فرصة لا تُفوَّت في مساءات باغ فردوس العليلة.

عشرات المنازل، وكثير منها أصبح اليوم مزارات ومتاحف ومطاعم تقليدية وآثارا تاريخية، مليئة بالجمال الأصيل، ربما هذا ما أشعرني بأن كل إيران عبارة عن: بيت جدي. من بين هذه المنازل الأخَّاذة، بيت العباسي، وبيت الطباطبائي، ومنزل ومتحف المقدم، ومنزل عامري في كاشان، وكذلك بعض القصور التاريخية، التي حُوِّلَتْ لاحقا إلى مرافق عامة وحدائق ومنتزهات، ومتحفا للسينما، مثل: باغ فردوس، وباغ نگارستان، وباغ فين، وغيرها من الحدائق والمزارات الكثيرة.

أما من حيث الشعر؛ فتَجِدَهُ مخطوطاً بنسيابة فاقة الروعة بخط "النستعليق" على المعمار وفي لوائح الشوارع والمُدن. لقد أحسستُ بأثرِ الشاعرِ الملحمي أبي القاسم الفردوسي صاحب كتاب "الشاهنامه" في الأماكن التاريخية التي تشبه ما نظمه من أساطير شعرية وأحداث تاريخية وقصصا عاطفية في كتابه. لقد التقيتُ نصبَهُ التذكاري مرتين، مرةً في جامعةِ طهران (أمام مبنى كلية الآداب والعلوم الإنسانية) عندما زرتها لإلقاء محاضرة في الزخرفة الإسلامية، وفي المرة الثانية قادتني قدمي نحو حديقة أعرفُهَا جيدا وقرأتُ عنها كثيرا! لكني لم أتوقعْ أنْ أدخلها دون أنْ أعرف أنها هي، وجدتُ نُصُبَ الفردوسي في باغ موزه نكَارستان؛ فأكتشفتُ أني في هذه الحديقة التي حلمتُ بزيارتها! تقع بالقرب من النُزل الذي أقطنه في شارع بهارستان، والمدهش في الأمر أنَّ نصبه التذكاري مُطعَّمٌ ببعض أبياته الشعرية المأخوذة من الشاهنامه، من قبيل:

"جهان كرده ام از سخن چون بهشت

ازين بيش تخم سخن كس نكشت

زمانی میاسای ز آموختن

اگر جان همی خواهی افروختن"

"أصبحَ العالمُ كُلَّهُ كالجنةِ من تأثيرِ كَلامي

إذ لم يقلْ أحدٌ شعرا أكثرَ مِني؛ فلغتي بذور مدفونة

رويتها بشعري؛ فازدهرت

إذا أردتَ الأزدهارَ

عليكَ أن لا تفارق العلمَ للحظة"

أما عن الشعراء المعاصرين؛ فإني تعرفتُ على الشاعر الثائر أحمد شاملو في إحدى المقاهي القديمة، التي يحوي قبوها على آثار سليمة لمعبد الزرادشتية، زرته برفقةِ شمعة وصديقتين، وفي الطابق ثاني، يعلو القبو مكتبةً عتيقة، مَنحُوتٌ على أحد كراسيها صورة شاملو، الشاعر المُجدد للشعر الفارسي، والناقد له في آنٍ معا.

تركتني ثقافة هذه البلاد وعمارتها عاجزةً عن التعبيرِ عما يختلج في فؤادي، مذهلة هذه البلاد في كل شيء! هذا الجمال بالنسبة لعِمارة الإنسان وإبداعه الفكري والحضاري، أما عن الطبيعة؛ فإنَّ نباتات بلاد فارس متنوعة؛ نظرا لأرضها الممتدة من الشمال إلى الجنوب ولأقاليمها الأربعة المتباينة؛ فموقعها شمال خط الاستواء، وتبعد عنه حوالي 3.558,24 km، أي أنها في النصف الشمالي من الكرة الأرضية؛ لذلك يعد مناخها معتدلا، والظروف المناخية تسهم في نمو أنواع معينة من النباتات دون سواها. كذلك الأمر بالنسبة لنوعية التربة؛ فعلى سبيل المثال- نوعية تُربة طهران، والمواد المكونة لها مختلفة عن مُدُن الجنوب، فتربتها سمراء وزراعية، والمناخ شبه المداري القاري مناسب للنباتات الرقيقة، التي بحاجة إلى جو بارد ومعتدل نسبيا، كما أنَّ موقع طهران ومدن الشمال بعيدا عن خط الاستواء، كل ذلك يؤثر على نوعية النباتات الموجودة في هذه الأرض.

إنَّ إيران بلادٌ لا تشبه إلا نفسها، بلاد مغرورة، أشجارها تقف حارسةً على طول الطريق الطويل. يندهشُ المرءُ أولَ الأمرِ عندَ رؤيةِ الأشجارِ الواقفات ليلا؛ راعيات للأرض، كأنهن حمات البلاد وأمنها، خصوصا الصنوبر البري، هذه الشجرة المنتشرة في طهران بكثرة، فارعة الطول، بارعة الجمال. وهنالك أنواع أخرى من النباتات التي تزخر بها البلاد؛ مثل: شجر الزيتون، والتين، والعرعر، والورد المُحمدي، وكروم العنب، والقطن، وزهرة اللوتس "نيلوفر" في الحدائق المائية. ذكرتني أشجار هذه الأرض بأشجار الجبل الأخضر؛ فهي تتشابه في أصناف نباتاتها، ومناخها المعتدل.

بعد زيارتي لطهران، قمتُ بزيارةِ مدينةٍ فارسية شهيرة، ارتفعت فيها روحُ عالم النباتِ الفرنسي، ريمي أوشير إيلوي (Remi Martin Aucher-Eloy)، الذي قام برحلةٍ طويلةٍ، جمع فيها أكثر من 15000 نوع من النباتات النادرة خلال حياته كلها من مختلف البلدان التي زارها.

أوشير فضوله كبير تجاه العلم، وكانَ أمله مفتولا بشعله روحه الشغوفة، وهو شخص متحمس، حماسه يستدعي حماسي واندفاعي المتواصل للأفكار؛ لهذا اخترتُ تتبُع مساره! إنَّ هذا العالِم كان يَعرفُ جيدا ماذا يريد من حياتهِ تلك -وإنْ أَردَتهُ ميتا في أحد الأديرة- وقد حقق مراده، ونال غايةَ مُناه.

لقد زارَ أوشير بلادي، بلاد الشمس، زار صحار، ومطرح، ونزوى والجبل الأخضر، وجمع قرابة 250 نبتة نادرة. قالَ أثناء رحلته في البحر وهو قادم إلى صحار: "لم أتمالك نفسي من أن أُعجَبُ بالمشهد المروع البديع الذي قدمه لي البحر، فقد بدا البحر بفعلٍ خاصٍ من الوميض الفسفوري الذي تتميز به المناطق الاستوائية، كأنه مُلتهب، وكانت كلُّ هبة ريح تقذفُ بنا وسط جبال سيارة من اللهبِ الدائم التجدد؛ تهدد بابتلاعنا في كل لحظة"[1]. هذا العالِم الشغوف، فاضتْ روحه في أصفهان، المدينة الإسلامية الشامخة بمناراتها الباسقات! ودُفِنَ في كنيسةٍ (فانك) بمنطقة جلفا، قمتُ بزيارتها؛ لإلقاء السلام عليه.

شخصٌ متأملٌ كــ"ريمي أوشير"، ليس سهلا أنْ يمُرَّ علينا دون أنْ يطبعَ أثره العميق! باحثٌ جادٌ جدا في سعيه لتحقيق أحلامه، شخصٌ يعلمنا درساً في مواصلة السعي، والعمل الدؤوب؛ لأجلنا أولاً، لأجل أرواحنا العظيمة.

 


أما عالم النبات الفارسي المسلم، أبو حنيفة الدِّينَوَرِي؛ فإنه المؤسس الأول لعلم الطبيعة في الشرق، ويعدُّ أول مسلم تحدث عن تهجين النباتات. قام الدينوري بتأليف العديد من الكتب، منها: "كتاب النبات"، مما استوقفني في هذا الكتاب أن صاحبه جعله شاملا، إذ أوردَ أبياتا شعرية من الموروث الشعري الذي قيل في النباتات! وهذا الأمر يسترعي انتباهنا لإلمام المؤلف بالجانب الأدبي، بالإضافة إلى الجانب العلمي والطبي! كذلك روايته لأحاديث وأقوال العلماء السابقين الذين كتبوا في هذا المجال، وروايته لما سمعه عن أقوام العرب وأخبارهم.

الملاحظ أنَّ هنالك تغييب واضح وجلي لكتب ومخطوطات علم النبات التراثية القديمة عن عالمنا العربي، خاصة أن "كتاب النبات" لم يتبقَ منه سوى الجزئين الثالث والخامس فقط من أصل ستة أجزاء. وأما مِن ما جاء في كتابه في وصف الأصماغ وتصنيفها حسب أنواعها؛ فحديثه عن نوعٍ نادر من الصمغ ينبت في اليمن وجنوب عُمان، يقول: "ومن الصموغِ المُقْل الذي يُسمَّى (الكُور) وهو من الأدوية، ولا نعلمه ينبتُ إلا ببلاد اليمن فيما بين الشِّحر وعُمان"[2].

توفي عالمنا الجليل عام 895 للميلاد، بعد رحلة طويلة في طلب العلم والكتابة والتأليف، متنقلا بين الأمصار والتي كان آخرها أصفهان؛ ليكتب كتاباً في علمِ الفلك، ثم يحلَّ أخيرا في مسقط رأسه (مدينة دَينور). وليس من المستغرب أن يكون عالم النبات فارسيا، وهو مُحاط –منذ نعومة أظافره- بأرضٍ خصبة، متفجرة بأنواع النباتات المختلفة.

في طريقِ العودةِ إلى مَوطنِ الروح؛ يمكن القول "بدلا من أن نعود بألف وستمئة نوع نباتي جديد، يمكن أنْ نعودَ من أسفارنا حاملين مجموعة أفكار غير مكتملة لكنها قادرة على أنْ تُعزِّزَ حياتنا"[3].

أما الليلة الأخيرة لي في أصفهان، فقد ذهبتُ عند منتصف الليل إلى نقش جهان؛ جلست لوحدي في ذلك المكان، خبأتُ أمنياتي وأحلامي، وتركتُ وعدا بالعودةِ من جديد. كانت زيارة بلاد فارس واكتشافها حلما! كأني دخلتُ في كتابِ ألف ليلة وليلة، ألف غزالة تنط وتقفز، وطيور تحلق نحوي، ضحكات تصدح في الأشجار، وموسيقى تتنزل من السماء، نجوم تتوهج في ليل نقش جهان المدهش، وحياة فسيحة داخل قلبي! هذه هي بلاد فارس الأصيلة.


إلى لقاءٍ آخر، إيران

هاجر الغفيلي



[1] اكتشاف جزيرة العرب (خمسة قرون من المغامرة والعلم)، جاكلين بيرين، تعريب: قدرى قلعجى، دار الكتاب العربي، ص389، 390.

[2] كتاب النبات، أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، تحقيق: برنهارد لفين، ج3، دار النشر فرانز شتاينر بفيسبادن، ط3، 1974م، ص89.

[3] فن السفر، الآن دو بوتين، ترجمة: الحارث النبهان، دار التنوير، بيروت، ط1، 2021، ص١١٢.

تعليقات

المشاركات الشائعة