ماهية التفكيك


 إنَّ لفظة "التفكيكية" ترجمة للفظة Deconstruction، إذ تعني بفكرنا وثقافتنا: فلسفة النقض والتقويض. ترجمها بعضهم إلى كلمات، مثل: الهدم، التشريح، والتشظي. إنَّ النقضَ ضد التشييد والإحكام، وهذا ما تفعله هذه الاستراتيجية، لكن يظل التعريب قاصرا عن شمول دلالة الفلسفة كلها! لذا، ما يبرر استعمالنا للفظة "التفكيك" شيوعها.

أغلب أصدقائي يسألون: ما التفكيك؟ يقال في ماهيته: إذا أردتَ أنْ تعرفَ التفكيكَ اعرفْ ما ليس بتفكيك! سأضربُ مثالا بسيطا: لدينا بيت قوي وماكن البناء، لو عصفتْ به ألف عاصفة لن يتأثرَ بناؤه. تخيلوا معي أنَّ التفكيك عبارة عن رجلٍ، واقف أمام هذا البناء المتين، ماذا سيفعل؟ سيشيرُ إلى مواطن بعض الطوب، ربما طوبة وربما أكثر، سيخبرنا أننا لو حركنا هذا الطوب، سينهدم البناء، وسيثبت لنا أنَّ البناء هش.  ويمكن -حتى دون أن يفعل التفكيك شيئا- أن يرينا فقط، أن البناء ينقض نفسه بنفسه، ويمكن أيضا أنْ يعيد التفكيك بناءه بطريقته الأفعوانية. هذه ماهية واحدة، وله ماهيات لكنها سالبة، فهو يعرف نفسه بالسلب.

إنَّ التفكيك يدخل في كلِّ جوانب الحياة، كونه فلسفة كونية شمولية، إذ يدخل في الزراعة، وفي تكنولوجيا التطور البشري، والذكاء الإصطناعي، وفي الفكر، والأدب والنقد، و الفنون، والسياسة، ويدخل كذلك في الطبخ والأكل، وفي أسلوب الحياة.


فمن حيث الفكر:

يقول علي حرب عن ماهيته من حيث الفكر: "التفكيك ليس دعوة إلى الهدم، بقدر ما هو قراءة في أنقاض العقل ونقائض الواقع"([1]). والتفكيرُ تفكيكٌ على حد تعبير بنعبد العالي حينما قال: "التفكير قفزات ووثبات، إنه ترحال وهروب. الفكرة المضادة ليست تنفيذا لقول ودحضا لرأي، ليست فكرة -نقيضا، والتفكير ليس نقضا ونقدا، وإنما هو هدم وخلخلة وتفكيك"([2])، يتضح أن دلالة التفكيك الهدم والبناء اللامتناهي.


ومن حيث العمارة والفنون:

يدخل التفكيك في العمارة (جربوا البحث عن "العمارة التفكيكية" ستدهشون)، وهناك فنان  ومصور معماري تفكيكي إسباني يدعى: Victor Enrich. لديه أسلوب خاص، يُطْلَقُ عليه: تشويه المباني deforming buildings. إنريش تلاعب بالهندسة المعمارية عن طريق التصميم الرقمي، إذ يستعمل برنامج V-Ray للعرض الثلاثي الأبعاد، فعلى سبيل المثال: صور فندق  في مبونخ بألمانيا اسمه: فندق NH  دويتشر كايزر  NH Deutscher Kaiser Hotel. صوره بطريقة 3D، وقام بتغيير هيئته ب 88 طريقة من طرق التفكير التفكيكي بواسطة التصميم الرقمي.

أحد تصاميم إنريش لفندق NH  دويتشر كايزر 


كما يدخل التفكيك في الرسم، وأشهره رسم القصص المصورة (الكوميكس)، بالمقابل يوجد نقد لهذه الرسومات يسمى نقد وتفكيك الكوميكس A Comics Studies Reader, deconstruction of comic ، ويعدُّ أكثر شهرةً في أمريكا.


كتاب كيف تقرأ نانسي؟ دراسة تفكيكية للكوميكس،
نانسي إحدى شخصيات القصص المصورة في مجلة Nancy (Fritzi Ritz)0  


وأما من حيث النصوص الأدبية والنقدية:

 فقد تحدث عنه تودوروف داخل نطاق الأدب، إذ قال: "الاتجاه الحديث ل(التفكيك) لا يسوق في اتجاه آخر. يمكن لممثليه أن يتساءلوا عن صلة العمل الأدبي بالحقيقة والقيم، لكن فقط ليلاحظوا -أو بالأحرى ليقرروا؛ لأنهم يعرفون ذلك مسبقا، فتلك عقيدتهم- أن العمل الأدبي حتما غير متسق، فلا يتوصل إذن لإثبات شيء وهو يقوم بتشويش قيمة ذاتها. ذلك ما يسمونه بتفكيك نص من النصوص"([3]).


وفي السياسة وتفكيك الشعوب:

درستُ سياسة تفكيك الشعوب الحالية، سورية والعراق أنموذجا، في الماستر. تنطلق فكرة تفكيك الشعوب من المتصور الامبريالي عن اليوتيوبيا أو المدينة الفاضلة والمساعي لتطبيقها على الأرض، وهو فكر محفز لتفكيك الشعوب بجانب الغايات الأخرى المعروفة. هناك العديد من الأمثلة عبر التاريخ التي طبَّقتْ فكرة إبادة شعب لأجل إنشاء شعب آخر جديد يحل محله.

 يمكن أخذ فكرة القنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي، إذ لا بد من التساؤل: لِمَ أبيد أناس بقنابل نووية؟ كيف كان اليبانيون قبل الحادثة؟ وكيف أصبح الناس بعدها؟ هذا هو الجانب غير المرئي للتفكيك، إبادة الشعوب واستبدالهم بأناس جدد آخرين، وبعقول متطورة؛ ليتطور العالم، وهنا، يقول بول ريكور: "إننا نلفي في النزعة الكليانية شيئا يشكل... تجديدا كبيرا يتمثل في مشروع إنتاج إنسان جديد، والتطلع إلى الإنطلاق من الصفر"([4]).

ويقول طودوروف في ذلك: "بصورة أكثر هامشية، في بلدان أوروبية أخرى، ستوجد إرادة لتسخير الفن في خدمة مشروع يوتوبي من أجل صنع مجتمع جديد كليا وإنسان جديد. وتتطلب الواقعية الاشتراكية، وفن الشعب، والأدب الدعائي الحفاظ على صلة قوية بالواقع المحيط، وعلى الخصوص، الخضوع للأهداف السياسية الحالية"([5]).


الفلسفة التفكيكية لم تتقبلها بيئتنا العربية، ولم ينتشرْ كثيرا، والدراسات (التطبيقية) فيه شحيحة؛ بسبب فلسفته التي لا تتوافق والفكر العربي. ومن أشهر التفكيكين العرب: كمال أبو ديب، وكيليطو في كتبه المتأخرة، واللبناني علي حرب، وغيرهم.

موقف دريدا* حينما رأى تصدير هذه الفلسفة إلى لغات وثقافات أخرى كان موقفا غريبا أحيانا!! إذ يرى -في بعض الأحيان- أن التفكيكية التي لديهم ليست مشابهة لمقصدياته !! يقول جابر عصفور عن ذلك: "في حواراتي مع جاك دريدا ذكرتُ له أن الدراسة التي صدَّرتْ بها (جاياتري سبيفاك) ترجمتها لكتابه، كانتْ هي مدخلي إلى محاولة فهم الكتاب. فنظرَ إليَّ وعلى شفتيه ابتسامة لا تخلو من سخرية. وقال لي: ولكنها لم تفهمني"([6])، لكنه يدرك حينها أن فلسفته قد نجحت؛ بنقض نفسها والتحول إلى شيء آخر جديد! هذا هو التفكيك تماما.

جاك دريدا

 

وباطلاعي القاصر، أرى أن للتفكيكية جنسيات، لا تتأطر ولا تتحدد إلا حينما تدخل ضمن فكر ما (التفكيك لا محدود، ولا بد لظهوره من حدود).

 مثلا جنسية استراتيجية التفكيك الفرنسية ليست كجنسية التفكيك العماني (قلتُ مثلا، ما زال لم يولدْ ولادة حقيقية في بيئتنا) بمعنى أن التفكيك عالمي، يتجنس ويندمج ويلبس ملابس القوم الذين يحل عندهم.

ليس التفكيك واحدا، لكل أمة ومجتمع وعقل وفرد تفكيكه الخاص واستراتيجته الخاصة. ليس للتفكيك أي ملامح، إلا حينما يدخل في إطار موضوع ما لدى لغة ما في مجتمع ما. تفكيك دريدا ليس كتفكيك كيليطو، ليس كستراتيجية كل منا. الذي يأخذ سماته من شخصياتنا وملامحه من فكرنا.



([1]علي حرب: هكذا أقرأ ما بعد التفكيك، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005، ص166.

 ([2])عبد السلام بنعبد العالي: امتداح اللافلسفة،  دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2010، ص17.

 ([3])تزفيطان طودوروف: الأدب في خطر، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2007، ص 20.

([4]) بول ريكور: الانتقاد والاعتقاد، ترجمة: حسن العمراني، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 2011، ص21 .

([5])  تزفيطان طودوروف: الأدب في خطر، ص40.

* جاك دريدا: فيلسوف فرنسي، أبو التفكيكة ومصدرها إلى أمريكا، رغم أسبقية بارت وفوكو وغيرهم "فكريا" في ذلك.

 ([6])جابر عصفور: تحديات الناقد المعاصر، دار التنوير، بيروت، ط1، 2014، ص198.


تعليقات

المشاركات الشائعة