بين أصولية الإبداع وتقليد الابتداع (قراءة في كتاب تحديات الناقد المعاصر/ جابر عصفور)
بين أصولية الإبداع وتقليد الابتداع
(قراءة في كتاب تحديات الناقد المعاصر/ جابر عصفور)
هاجر
الغفيلي
توسلتُ بهذا الكتاب من باب الاستئناس
والاضطلاع به، وليكون عَضُدا لي؛ لإزالة غشاء الجهلِ الذي يدثرُ عقولنا الصلدة، وللابتعاد
عن براثن السذاجة، والانطباعية. لأكنْ صادقة، لازلتُ لم أنتهِ بعد من قراءة الكتاب، لكنه
يحوي زخما فكريا عاليا، وتنوعا في المقالات والدراسات، إذ يجعل القارئ يتشرب
ألوانا من الأفهومات بسلاسة، ويتمتع بعمق فكر جابر عصفور وجديته في الطرح، وكأن
الكتاب سجاد أصفهاني متقن الصنع، منسوج متناغم، منسجم رغم مشاربه المتنوعة.
تحدث جابر عصفور عن تحديات الناقد
العربي المعاصر، منها: التحدي النصي، التحدي المنهجي، التحدي
الاجتماعي والسياسي، التحدي الثقافي، وتحدي تحديد قيمة الأعمال الأدبية بشجاعة وصدق،
كذلك تحدي سرعة إيقاع التغير في المناهج النقدية. ولمن تتلبسه رغبة فهم المدارس
النقدية الغربية الحديثة؛ عصفور أبدع في سردها بطريقة سلسة ومتسلسلة، كذلك تطرق
إلى الفرق بين الناقد الغربي والناقد العربي، إذ يكمن الفرق في الوعي المجتمعي،
وأدوات إنتاج المعرفة.
إنَّ القمع في مجتمعنا ممارس بكل حرية وحق! وإذا لم يفتأ القمع
أن يزول؛ فلن يزولَ ضيق أفق ناقدنا، "إلا إذا استبدل لغة بلغة ومكانا
بمكان"[1]،
واستحضر الكاتبة منى المعولية التي تم مهاجمة روايتها خضراء الدمن مهاجمة شرسة، حتى
قبل أن تتم قراءة الرواية بتأنٍ ومعرفة مسعاها، وجودة أسلوبها، في النهاية شئنا أم
أبينا سيتم إنطاق المسكوت عنه رغم كافة القيود.
سأركز وأجمل
حديثي هنا عما خرجتُ به من ثمارٍ من هذا الكتاب. يا ليتها كانت قطوفا دانية،
لكنها كانت نائية؛ فأحصيتها عددا وحصرتها في ثلاث نقاط مُجْمَلة مهمة لي في مرحلتي الآنية. أخترتُ هذه النقاط؛ بناء على
العجاف الذي نعانيه، والفقر الفكري والمنهجي. كنت وما زلتُ أبحثُ عن آليات وأساليب
لتفتيح عقلي بشتى الوسائل، وما زلتُ هائمةً على وجهي. قراءتي من هذا الكتاب، أيقظتْ
همتي، وجعلتني أدركُ وضعَ الناقدِ المعاصر في العالم العربي، وتحدياته، وحروبه
الهجينة، سواء ضد الأصوليات الدينية، أو الإرهاب الديني، أو الخطابات التكفيرية،
والتطرف الديني، أو من الناحية السياسية وقمع الحريات، أو على مستوى الأعراف
الاجتماعية والتقاليد التالدة، التي عفى عليها الزمن، ولم تعد لها أي جدوى في
عصرنا الآني، وهذه ليست دعوى ضد التقاليد، بل ضد التقاليد الخاطئة، وغير المرنة
لإعادة توظيفها في عصرنا. من هذا المنطلق اخترت أنْ أتطرّقَ إلى البنودِ التالية:
1. أولا: تأصيل أسلوب الناقد:
كنتُ قد خططتُ لرسالتي الماجستير أن أقوم بقراءة جديدة
لنصوص عربية قديمة وفق مناهج غربية حديثة، وهذه الفكرة استقيتها من عدة نقاد كبار،
فوجدتُ نفسي أقلد طريقتهم، أدركتُ ذلك من خلال هذا الكتاب، والآن أفكر بشكل أعمق
في تغيير مسار خطتي البحثية، بطريقتي الخاصة، وهذا يحتاج إلى جهدٍ مضنٍ آخر.
يقول عصفور: "لا فارق بين من يقوم بتقليد رولان
بارت أو زيزاك بوصفه الأحدث أو عبد القاهر أو ابن قتيبة بوصفه الأقدم، فكلاهما
مقلِّد من أهل الاتّباع وليس الابتداع، فاقد للأصالة في الحالين"[2].
ويؤكد في موضعٍ آخر: "إن أصالة النقد والناقد تأتي
من قدرته على الإضافة الذاتية إلى ما أخذ"[3].
ويعطينا عصفور نموذجا على ناقدٍ أصيل، هو: "إدوارد سعيد" ثم يفند كلامه
لماذا إدوارد سعيد بالتحديد؟
يقول عصفور عن الناقد المُقلِّد: "إنْ فعل ذلك فلن
يحقق إنتاجا نقديا مؤثرا أبدا، وأيَا كان حظه من النجاح فإن هذا الحظ لن يعدو أن
يجعل من صوته النقدي صدى لغيره، لا أصالة ولا جدة ولا نضارة فيه."[4]،
وهذا درس يجب أن نعيه، أن ننتبه لمسارنا، الذي نقطعه، هل نتبدع ونعمل عقلنا؟ أم
نجيد التقليد وحسب؟
والأسلوب كما يقال، هو البصمة الشخصية التي تميز الكاتب
عن غيره.
يقول عصفور: "فكل مبدع أصيل هو أعلى من المذهب الذي
ينتسب إليه وأسهم في إشاعته... فالناقد الكبير كالفنان الأصيل يتأبى على قيود سجن
النسق المذهبي ويتمرد على القواعد التي يحفظها نقاد الدرجة الثانية أو ما دونها عن
ظهر قلب"[5].
أن تتبنى منهجا، لا يعني إطلاقا أن تسلم به تسليما وتذوب شخصيتك الناقدة أو
المبدعة فيه، بل أن تستقلَ وتضيف إليه، وتوظفه لما ترى فيه من جدوى، وما تؤمن أنت
به. فكن كريما على نفسك وعلى النصوص، واعطِ، لتبهرنا –نحن معشر القراء.
2. ثانيا: التجمعات النقدية والنقاشات:
النقاشات النقدية وتلاقح الأفكار تؤدي إلى إنتاج أفكار
متنوعة ورؤى جديدة، متزايدة متمايزة، ومثلما هو معروف بالأضداد تتميز المحاسن
ويبرز الجمال. يمكنني أن أذكر عدة أشخاص تشاركوا تجربة الإبداع، فأنضجتهم مثل:
المتنبي وابن جني (حين شرح ابن جني ديوان المتنبي)، جيل دولوز وفيلكس غاتاري، كيليطو
وعبد السلام بنعبد العالي، هشام شرابي وأصدقائه، محمد عابد الجابري وزملائه، جابر
عصفور ومجموعته المعروفة. وغيرهم الكثير. يقول عصفور عن مجموعتهم النقاشية:
"وكانت هذه المجموعة تلتقي في منزل الأهواني صباح كل ثلاثاء، للنقاش حول
القضايا النقدية الجديدة، كما كانت تدخل في نقاش حماسي مع أبناء الجيل السابق
الذين كانوا يحضرون إلى الندوة لتبادل الرأي"[6].
وكذلك يقول هشام شرابي: "كنا ندعو كل أسبوع أستاذا
لتناول العشاء معنا ولإلقاء محاضرة بعد العشاء"[7]
رجوتُ أنْ نعمل مجموعة مثل هذه التجمعات، استشرت بعض
الزملاء، ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة نزوى، لكن العوائق كثيرة، سواء من جهة الأعراف
المجتمعية، أو النظام الجامعي من جهة، أو كسل الطلاب وعدم إقبالهم وتحمسهم
للموضوع، وكأن الدرجات هي من ستصنع فكرا خلّاقا، أو أننا لا نستحق أن نرقى درجات الانفتاح
والتطور الفكري والإبداعي. وهذا يقودني إلى ما تعلمناه ولا نطبقه، توأمة الأدب
والنقد، بلا نقد يصقلنا، سنبقى عاكفين في قاعنا السحيق. الكتاب حمسني لاستمر في
المحاولة المرة بعد الأخرى.
هذه التجمعات، من الممكن، بل الأكيد أنها تمتلك آليات
إنتاج المعرفة. والتراكم المعرفي المستمر هو ما يمكن أن يُبنى عليه من ناحية
التطور والتقدم الفكري لأي حضارة، فإذا انقطعتْ هذه الديمومة المستمرة؛ فإن التخلف
مصيرنا لا محالة. وكما يقول عصفور: "انقطع التراكم المعرفي والتواصل بمعناه
الخلَاق وغلبت ثقافةُ (الاتباع) ثقافةَ (الابتداع)"[8].
هذه التجمعات أيضا تلغي التقليد وتُعْمِل العقل، تجعل
الفرد يبدع ويبتدع. فلنجتمع إذن؛ فمجالس الأُنس تغذي ثقافة الأمة، تضيف وتعطي
الكثير.
3. ثالثا: فعلُ المساءلة:
عدم المساءلة يقود إلى فعل الاتباع والتقليد الأعور، "والبدء
بفعل المساءلة الدائمة والمستمرة هو الخطوة الأولى في طريق الابتداع الأصيل، وليس
التقليد العصري الذي أصبح ظاهرة نراها كلما غابت روح المساءلة وحلَ محلها روح
الإذعان لكل ما يحيل العقل إلى خزانة للمعلومات فحسب."[9]
والمساءلة تؤدي إلى إحدى طرق قراءة النص قراءة جديدة،
وإعادة إنتاج فهمه، وهي: "إن كل علاقة حضور في النص تقود إلى علاقة غياب خارج
النص"[10].
من خلال مساءلة النصوص، تقليبها، حتى وإن لم يكنْ بها شيء مثير، أو يشدُّ انتباه القارئ، من خلال آليتي
الحضور الغياب، يمكن إزالة الحُجُب، والأغشية؛ ليتجلى النص، وهذا يعتمد على ذكاء
الناقد وفطنته في القراءة.
كذلك يجب على الناقد عدم التسليم بالمطلق، أي جعل البدهي
والمنطقي تحت مجهر السؤال. والشك يقودنا دائما إلى اليقين. يقول ليتش:
"والأسئلة الأولى، التي كانت حيوية في يوم من الأيام والتي تم نسيانها الآن،
نادرا ما تطاردنا اليوم. نحن نجمع الحقائق من أرفف الموت..."[11]. يجب
إحياء الأسئلة البديهية التي لا ينتبه إليها أحد.
يطرح عصفور سؤالا مهما، ينبغي على كل ناقد مقبل على كتابة
دراسة، أن يسأل نفسه، وهو: "ما المنهج الذي يختاره الناقد ويرتاح إليه، ويرى
فيه خير طريق يقوده إلى روح النص الأدبي والكشف عن أسراره أو كنوزه التي تظل دائما
في حاجة إلى الكشف؟"[12].
مساءلة المناهج وإعادة النظر فيها، وتقليبها، إلى أن يقتنع الناقد بالمنهج الذي
يريد أن يتبناه لبحثه، أمر غاية في الأهمية. إذن، فعل المساءلة يبعدنا عن الاتباعية
وتقليد أخر صيحات المناهج بلا وعي، بل يجعلنا نبدع ونحن في أوج قراءتنا للنصوص.
ومن نتائج المساءلة أنها تؤدي إلى عالم أفضل، ينتج أدبا
طليقا حرا، ونصوصا إبداعية أكثر تجددا وحيوية. بالمقابل، عدم الحرية الفكرية وحق
الاجتهاد الذاتي -هذا الحرمان- يؤدي إلى اغتيال روح المساءلة، بالتالي يؤثرا
تأثيرا كبيرا على المنتج الأدبي الإبداعي، وعلى النقد الذي تضيق أفق أدواته؛ فيغدو
محصورا يتحرك فقط في منطقته المحددة له.
2017م
جميل جدا ما طرحته في هذا المقال ... وإني أوافقك الرأي في ضرورة ولادة هذه المجموعات الأدبية الناقدة خصوصا أن مجتمعنا العماني يفتقر وبشدة لمثل هذه المجموعات والحراك الأدبي الثقافي بشكل عام قصير الباع معنا مع احترامنا لما هو موجود ف الساحة الأدبية والثقافية العمانية إلا أنه كما لا زال غضا فتيا لم يصل حد النضج بعد
ردحذفشكرا شكرا ♥♥ بطاقتا الشبابية سنرفع من مستوى النقد في عمان
حذف